من المسؤول عن مذبحة الجيش في كمين «فتح الإسلام»؟
كتب المحرر السياسي:
كالعادة، وفّرت الفضائيات اللبنانية والعربية للمشاهدين اللبنانيين وغير اللبنانيين، مادة فائضة، طوال نهار وليل أمس، للوقائع الميدانية في مدينة طرابلس ومخيم نهر البارد، ولكن تلك الوقائع كانت تشي بشيء أكبر في السياسة والأمن.
في المحصلة، سقط 27 شهيداً للجيش اللبناني وعشرات الجرحى من الجيش وقوى الأمن الداخلي والمدنيين اللبنانيين والفلسطينيين. أيضاً، سقط أكثر من عشرين قتيلاً من عناصر المجموعات التي اشتبكت مع القوى العسكرية والأمنية، وقيل إنهم ينتمون الى «فتح الاسلام»، ولم تتحدث أية وسيلة اعلامية عن الضحايا من المدنيين في مخيم نهر البارد، باستثاء الإشارة الى 20 جريحاً أخرجهم الصليب الأحمر ليلاً الى مخيم البداوي لمعالجتهم!
وقد أحكم الجيش وقوى الأمن قبضتهم على «الخلايا النائمة» في طرابلس والتي كان مصير معظم أفرادها في المدينة القتل أو الاعتقال، وتبين أنهم يحملون جنسيات لبنانية وفلسطينية وعربية، وبما في ذلك عدد من الأفغان (سجل إطلاق رشقات نارية قبيل منتصف ليل امس في طرابلس).
واستطاع الجيش العودة نسبياً الى مواقعه في المدخل الشمالي لمخيم نهر البارد من ناحية العبدة، وأحكم السيطرة على كل مداخل المخيم والتلال المشرفة على طريق عام طرابلس ـ العبدة، لكن المعارك حول المخيم لم تتوقف وإن تراجعت وتيرتها إلى مناوشات متقطعة حتى ساعة متأخرة من فجر اليوم.
وانبلج اليوم الشمالي الدامي على فجر متفجر حمل عنوانين ميّزا ساعاته الثقيلة، الأول، جاء متصلا بـ«المعارك» ونتائجها، والثاني، في سرعة الاستثمار السياسي والتوظيف في خدمة المعارك السياسية ثم في محاولة قطف «ثمارها» في طرابلس، مساء أمس، من خلال «تظاهرات الفرح» السيّارة لفريق الأكثرية!
والمريب أن اليوم الشمالي الدامي كاد يسقط صباحاً في فخ الاقتتال الداخلي بعد أن سارع عدد من المواطنين إلى تلبية الدعوات التي صدرت لمؤازرة الجيش والقوى الأمنية فحمل بعضهم السلاح وخرج إلى الشوارع في المنية للمشاركة في القتال لولا أن استدرك الجيش هذا الخطر فأبعد «المتحمسين»، ومنع اقترابهم من منطقة المعارك على تخوم مخيم نهر البارد، بينما شوهدت عناصر مدنية مسلحة تجوب الشوارع المحيطة بمناطق الاشتباكات في طرابلس فتبين أن بعضها من العناصر الأمنية الرسمية والبعض الآخر يحوز تراخيص حمل السلاح لكنه من غير الأمنيين، فاختلط الأمر وكاد يتسبب أحياناً بإشكالات مع القوى الأمنية التي انتشرت في أحياء المدينة بكثافة.
وإذا اكتفينا بهذا القدر من الوقائع الميدانية، فإن شهية الأسئلة المفتوحة، البريئة والخبيثة، على
حد سواء، وهي بالعشرات لا بل بالمئات، تصبح هي الأساس، وأبرزها الآتي:
أولاً، عندما حسمت قوى الأمن الداخلي، هوية منفذي حادثة سلب فرع مصرف البحر المتوسط في أميون، وقررت أنهم ينتمون الى «فتح الاسلام»، وصدرت صحف الأمس، تحمل هذا العنوان، على صدر صفحاتها الأولى، وقررت بالتالي تنفيذ مداهمات محددة، ألم يكن من المنطقي، وتبعاً لقرارات مجلس الأمن المركزي، وبرعاية رئيس الحكومة فؤاد السنيورة شخصياً، أن يتم التنسيق بين الأجهزة المعنية، لكي تكون أية عملية أمنية منسقة معلوماتياً وأمنياً ولوجستياً الخ؟ وإذا صحت فرضية التنسيق المسبق بينهم، فما الذي يبرر ارتكاب مجزرة بكل معنى الكلمة بهم على الطرقات وبثيابهم المدنية، بينما كانت عناصر مسلحة تقتحم مواقع الجيش في تخوم مخيم نهر البارد «على البارد» وتذبح عشرة من عناصره وهم نيام، وقيل إن بعضهم قد قطعت رؤوسهم؟ وماذا يفسر «لا مهنية القوات الأمنية»، إذا صح التعبير، في معالجة قضايا من هذا النوع وطبيعة الارتجال في عملها مما أطال أمد الاشتباكات وجعل اللبنانيين يقضون نهار عطلتهم يتابعون على الشاشات وقائع اليوم الشمالي الدامي؟
ثانياً، في حالة التنسيق أو عدمه، من يتحمل مسؤولية سقوط دم لبناني، سواء كان لعسكريين أو مدنيين. وفيما لو اتخذت إجراءات مختلفة، هل كان بالإمكان تفادي تلك المجزرة الفظيعة التي أصابت الجيش اللبناني؟
ثالثاً، هل كان الجيش اللبناني يواجه «فخاً مدبراً»، ولماذا عندما تعرضت مجموعة «فتح الاسلام» للمداهمة في طرابلس، ردت سريعاً وفي نقاط محددة ومدروسة على الجيش وليس على غيره؟ وإذا كان الجيش قد تبلغ مسبقاً بقرار المداهمة، فإن خطأ كبيراً قد حصل، وإذا لم يكن العمل منسقاً معه، فتلك مصيبة أكبر؟
رابعاً، لو سلّمنا أن هناك حيثيات جعلت قوى الأمن تنفذ العملية بمفردها ومن دون تنسيق مع أحد، هل كانت مستعدة لذلك، وهل كانت على دراية مسبقة بحجم المجموعات التي كانت تنتظرها، ولماذا «استنجدت» متأخرة بالجيش، وهل استفادت القوى الأمنية من التحقيق القضائي الذي أجري مع مجموعة عين علق التي كشفت عن مخطط يرمي الى سرقة مصارف ومهاجمة مواقع للجيش والسيطرة على جبل محسن في طرابلس؟
خامساً، شعر الجيش اللبناني وقيادته، أمس، أنهم كانوا ضحية الانقسام السياسي القائم في البلاد والذي يجعل البلد في حالة انكشاف أمني تتيح لـ«فتح الأسلام»، وغيرها أن تتسلل من خلاله لاستهداف السلم الأهلي الهش.
سادساً، في ظل حملة الاستنكار الوطنية الشاملة لما جرى، بات السؤال المطروح من هي الجهة الخارجية التي تريد وضع الجيش في هذا الموقع الصعب، بحيث أصبح وقوفه عند «خطوط التماس» في نهر البارد متفرجاً على مجموعات «فتح الاسلام» تسرح وتمرح في المخيم هو تنازل في الأمن والسياسة، بينما اذا استجاب لنداءات «الحسم» من بعض الأكثرية (خاصة النائب سعد الحريري) وبعض المعارضة (النائب ميشال عون تحديداً) يكون قد دخل في مغامرة غير محسوبة وطنياً وقومياً؟
سابعاً، لم يقتصر الخوف على أبناء طرابلس والشمال بل تحوّل الى خوف وطني عام، فيما بدت القوى السياسية مربكة في التعامل مع ما جرى، فلم نسمع موقفاً موحداً لقوى الأكثرية بل «حفلة اتهامات»، شكّلت نسخة مكررة لما جرى في أحداث أمنية سابقة. أما المعارضة، فقد اتخذت مواقف متباعدة على صورة موقف «حزب الله»، الذي جاء متأخراً بعض الشيء ولكنه حاسم في إبداء الحرص على الجيش اللبناني والشعب الفلسطيني والسلم الأهلي اللبناني، ويدعو الى معالجة سياسية جريئة، فيما كان حليفاه العماد ميشال عون وسليمان فرنجية يناديان بـ«الحسم».
ثامناً، لم يتمكن أحد حتى الآن، من تقديم رواية دقيقة وصحيحة وموضوعية للبنانيين، عن الجهة التي اخترعت و«فبركت» وساعدت على هذا النمو القياسي لـ«فتح الاسلام» وجعلتها في غضون أقل من ستة أشهر، منظمة قادرة، بالعشرات من عناصرها، على شل عاصمة لبنان الثانية ومحاصرة الجيش اللبناني من خلال تمركزها في أكبر مخيمات الشمال اللبناني (35 الف نسمة)، وتحويل سكانه رهينة لها ولأهدافها التي لا تمت بصلة الى فلسطين والعروبة والاسلام؟
تاسعاً، عندما اتهمت «فتح الاسلام» بالضلوع في جريمة عين علق في شباط الماضي، أصبحت تحت عين القوى الأمنية، فكيف أمكن لها أن تتمدد بهذه السرعة القياسية خارج المخيم وأن توفّر انتشاراً لها، جعل من راقب الإجراءات الأمنية في العاصمة بيروت، يظن أن هذا التنظيم صار موجوداً في كل مدينة وقرية لبنانية من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب؟
عاشراً، من وّفر تلك الامكانات المادية الهائلة التي تجعل تنظيماً يقوده شاكر العبسي (...)، يشتري شققاً في مناطق غير مصنفة ضمن البيئة التقليدية لهذه المجموعات، وبعيداً عن أعين الرقابة الأمنية التي كانت منشغلة بمراقبة مناطق أخرى تعتبر الخزان الفعلي تاريخياً لكل التيارات الإسلامية في طرابلس (القبة وباب التبانة وأبو سمراء)؟ وكيف استطاع هؤلاء تجميع وتخزين هذه الأسلحة والذخائر كلها، ومن ساعدهم على هذا التدريب الاحترافي العالي المستوى، ومن سهّل لهم تلك القدرة على الانتشار على طول الخط الممتد من الزاهرية عمقاً باتجاه التبانة مروراً بالتل وشارع المئتين، على طريقة من يلم إلماماً كاملاً بالارض التي يتحرك عليها، الى حد جعلنا نشهد «حرب شوارع» حقيقية ومن قبل مجموعات مدربة ومحترفة جداً؟
حادي عشر، هل هناك صلة وصل بين هذه المجموعات والحالة السلفية المتنامية في الشمال وخاصة في طرابلس، وهل نحن أمام نسخة منقحة لأحداث الضنية في نهاية عام 1999 ومطلع العام ألفين، عندما قيل إن جهات إقليمية دفعت تلك المجموعات الى «الواجهة الشمالية» من أجل قبض «فواتير» إقليمية؟
ثاني عشر، ما علاقة ما حصل بالأمس مع أحداث مخيم البداوي بين التنظيمات الفلسطينية في العام الماضي وما اعقبها من حديث عن انتقال مجموعة «فتح الاسلام» الى مخيم نهر البارد، وما علاقة ما حصل بمقتل مساعد شاكر العبسي المدعو «أبو الليث الشامي» ومرافقه «أبو عبد الرحمن الشامي» قبل عشرة ايام في منطقة الحدود السورية العراقية على يد الأمن السوري؟
ثالث عشر، ما علاقة ما حصل من مداهمات قبل اسابيع قليلة في منطقة أبي سمراء وتبين بعد إلقاء القبض على مجموعات «القاعدة» وجود علاقة بينها وبين «فتح الاسلام»؟
رابع عشر، ما هي صحة المعلومات التي تتحدث عن مفاوضات سرية خاضها أكثر من فريق سياسي مؤخراً مع «فتح الاسلام» ولماذا تزامن تداول المعلومات بين اعلى المراجع الأمنية والسياسية حول فتنة يحضر لها من أحد المخيمات في الشمال أو الجنوب (تبلغ ممثل منظمة التحرير الفلسطينية عباس زكي معلومات تفصيلية من مراجع لبنانية) مع تخفيف الإجراءات حول مخيم نهر البارد في الأيام الأخيرة؟ وما هي صحة المعلومات عن تدخلات سياسية للإفراج عن بعض الموقوفين من تنظيم «القاعدة» و«فتح الاسلام» الذين حققت معهم مديرية المخابرات في الجيش وأحالتهم الى القضاء المختص؟
خامس عشر، ما هي علاقة ما جرى بما شهدته طرابلس في الأيام الأخيرة من محاولة لـ«ضبط» عملية التبليغ الديني في مساجد طرابلس والشمال وكادت تتسبب بعدد كبير من الإشكالات، وهل ثمة تيارات اصولية مماثلة تتربى في الحضن نفسه ووفق منطق غض الطرف عينه؟
سادس عشر، لماذا ركّز فريق الأكثرية في النهار على وجود ترابط بين أحداث طرابلس ومخيم البارد وبين اقتراب موعد إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن وفق الفصل السابع، وبالتالي توجيه أصابع الاتهام الى سوريا، بينما سعى ليلاً الى الفصل بين الأحداث والمحكمة مع تركيز الهجوم على سوريا وطرح أسئلة حول تأخر المعارضة في تحديد موقفها مما يجري، وتحديداً «حزب الله»؟
سابع عشر، هل هي مصادفة ان تأتي احداث الشمال، بعد ساعات قليلة من تنبؤ قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع، بحصول «محاولات امنية خفيفة»، وتسميته «فتح الاسلام» بالاسم، ووصفه إياها بأنها احدى ادوات التوتير وأنها اصبحت تحت الانظار؟
ثامن عشر، لقد حسم الاجتماع الوزاري الأمني الوجهة السياسية الامنية بعدم اتخاذ قرار بدخول المخيم، لكنه طلب رفع الغطاء السياسي والديني والروحي والانساني عن مجموعة «فتح الاسلام» وقرر دعم كل خطوات الجيش وباقي القوى الامنية التي تم تفويضها صلاحيات مطلقة لاجتثاث هذه الحالة الشاذة وتعقب عناصرها وخلاياها وعدم التراخي والمهادنة معها، وترك للقوى الامنية تقرير الوسيلة المناسبة لتنفيذ المهمة، لكن تبقى العبرة في الترجمة العملية، علماً ان نموذج تعامل الجهات الرسمية، أمس، عسكرية أم حكومية، مع ما جرى، ترك الساحة مفتوحة أمام سيل من المواقف والتحليلات التي أبعدت النقاش عن المهنية وأخذته نحو ساحات الاستغلال السياسي الرخيص من دون الأخذ بالاعتبار حرارة الدم المسفوك أو الذي يمكن أن يسفك مجددا؟
تاسع عشر، نجحت معظم القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج في صياغة موقف سياسي تمثل برفع الغطاء عن مجموعة «فتح الاسلام»، واعتبارها لا تمت بصلة الى فلسطين والاسلام ولا القضية الفلسطينية، لكنها ناشدت الجميع عدم تحويل الاشكال مع هذه المجموعة الى اشكال مع الجمهور الفلسطيني سواء بالممارسات أو من خلال الخطابات العنصرية التي شهدناها بالامس أو في مراحل سابقة.
عشرون، ثمة أسئلة سياسية كثيرة، خاصة حول ارتباط ما جرى، أمس، بما نقل عن لسان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد ولش خلال زيارته الى بيروت، منذ أيام، واجتماعه بقيادات سياسية مختلفة، بالاضافة الى قائد الجيش، حيث نقل عنه تخوفه من أحداث أمنية مقبلة على لبنان بسبب تطورات اقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن، فيما كانت قيادات في المعارضة تحاول ايجاد ترابط بين زيارة ولش وما اسمته «التوقيت المشبوه» للأحداث واستهداف الجيش تحديداً.
السفير